فصل: فصل في التقوى والبواعث عليها ودرجاتها وفضائلها المستنبطة من القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

سؤال: لم خصّ الله تعالى المتقين بهدايته؟
الجواب: قوله تعالى: {لِّلْمُتَّقِينَ} خصّ الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفًا لهم؛ لأنهم آمنوا وصدّقوا بما فيه.
وروي عن أبي رَوْقٍ أنه قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} أي كرامة لهم؛ يعني إنما أضاف إليهم إجلالًا لهم وكرامةً لهم وبيانًا لفضلهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف.
وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين، فحذف لدلالة أحد الفريقين، وخص المتقين بالذكر تشريفًا لهم.
ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى.
ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازًا لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفًا والهدى مظروفًا، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك: زيد في البيت. اهـ.

.فائدة: في التقوى:

التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأوّلين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان؛ كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشِّعر وأنت ما حُفظ عنك شيء؛ فقال:
يريد المرء أن يُؤْتَى مُنَاه ** ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي ** وتقوى الله أفضل ما استفادا

وروى ابن ماجه في سننه عن أبي أُمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سَرّته، وإن أقسم عليها أبَرَّته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فَعْلى فقلبت الواو تاء من وَقَيْته أقيه أي منعته؛ ورجلٌ تقيّ أي خائف، أصله وقى؛ وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة؛ كما قالوا: تُجاه وتُراث، والأصل وُجاه ووُراث. اهـ. بتصرف يسير.

.قال النيسابوري:

المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى. والوقاية فرط الصيانة، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء. وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات. واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس» فحقيقة التقوى الخشية {يا أيها الناس اتقوا ربكم} [لقمان: 33] وقد يراد بها الإيمان {وألزمهم كلمة التقوى} [الفتح: 26] أي التوحيد. وقد يراد التوبة {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} [الأعراف: 96] أي تابوا. وقد يراد الطاعة {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2] وقد يراد ترك المعصية {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله} [البقرة: 189] وقد يراد الإخلاص {فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف {إن الله مع الذين اتقوا} [النحل: 128] {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} [البقرة: 197] {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده» وقال علي عليه السلام: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة. وعن إبراهيم بن أدهم: أن لا يجد الخلق في لسانك عيبًا، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيبًا، ولا ملك العرش في سرك عيبًا. الواقدي: أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق. ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك. ولله در القائل: خل الذنوب صغيرها. وكبيرها فهو التقي.
كن مثل ماش في طريـ ** ـق الشوق يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة ** إن الجبال من الحصى

.قال السمرقندي:

فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟
قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم.
روي عن أبي روق أنه قال: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} أي كرامة لهم.
يعني إنما أضاف إليهم إجلالًا وكرامة لهم، وبيانًا لفضلهم. اهـ.

.قال الطبري:

فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ. اهـ.

.قال الخازن:

سؤال: فإن قلت كيف قال هدى للمتقين والمتقون هم المهتدون؟
قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

وأجاب صاحب الأمثل عن هذا السؤال قائلا:
واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟
السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة.
وبعبارة أخرى: الأفراد الفاقدون للإِيمان على قسمين:
قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقدارًا من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.
وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.
ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك. اهـ.

.قال الزمخشري:

فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟
قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدى للمتقين.
وأيضًا فقد جعل ذلك سلمًا إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبَّب. اهـ.

.فصل في التقوى والبواعث عليها ودرجاتها وفضائلها المستنبطة من القرآن:

وهي خمس عشرة:
الهدى كقوله: {هدى للمتقين}.
والفطرة لقوله: {إن الله مع الذين اتقوا} [النحل: 128].
والولاية لقوله: {والله ولي المتقين} [الجاثية: 19].
والمحبة لقوله: {إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7].
والمغفرة لقوله: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا} [الأنفال: 29].
والمخرج من الغم والرزق من حيث لا تحتسب لقوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا} [الطلاق: 4].
وتيسير الأمور: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق: 4].
وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا}.
وتقبل الأعمال: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27].
والفلاح لقوله: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} [البقرة: 189].
والبشرى لقوله: {لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 64].
ودخول الجنة لقوله: {إن للمتقين عند ربه جنات النعيم} [القلم: 34].
والنجاة من النار لقوله: {ثم تنجي الذين اتقوا} [مريم: 72].

.البواعث على التقوى عشرة:

خوف العقاب الأخروي.
وخوف العقاب الدنيوي، رجاء الثواب الدنيوي، رجاء الثواب الأخروي، خوف الحساب، الحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، الشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: {إنما يخشي الله من عباده العلماء} [فاطر: 28].
وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع

ولله در القائل:
قالت وقد سألت عن حال عاشقها ** لله صفة ولا تنقص ولا تزد

فقلت لو كان يظن الموت من ظمإ ** وقلت قف ورود الماء لم يرد

.درجات التقوى خمس:

أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي، والحرمات، وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة. اهـ.

.ومن لطائف قوله: {هدى للمتقين}:

ما نقله السيوطي- رحمه الله- في الدر المنثور بقوله:
أخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {هدى} قال: نور {للمتقين} قال: هم المؤمنون.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هدى للمتقين} أي الذين يحذرون من أمر الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {هدى للمتقين} قال: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {هدى للمتقين} قال: جعله الله هدى وضياء لمن صدَّق به، ونور للمتقين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يُحبَسُ الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي منادٍ: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن، لايحتجب الله منهم، ولا يستتر. قيل: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك، وعبدة الأوثان واخلصوا، لله العبادة، فيمرون إلى الجنة.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي هريرة. أن رجلًا قال له: ما التقوى؟ قال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب أنه قيل له: ألا تجمع لنا التقوى في كلام يسير يرونه؟ فقال: التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله.
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرمًا. يكون حجابًا بينه وبين الحرام.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري قال: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن المبارك قال: لو أن رجلًا اتقى مائة شيء ولم يتق شيئًا واحدًا، لم يكن من المتقين.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها، إلى ما قد علمت منها.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء قال: من سره أن يكون متقيًا فليكن أذل من قعود إبل، كل من أتى عليه أرغاه.
وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك بن أنس عن وهب بن كيسان قال: كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة. أما بعد... فإن لأهل التقوى علامات يُعْرَفون بها ويُعرِفونها من أنفسهم. من صبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر النعماء، وذل لحكم القرآن.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك قال: قال داود لابنه سليمان عليه السلام: يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: لحسن توكله على الله فيما نابه، ولحسن رضاه فيما أتاه، ولحسن زهده فيما فاته.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سهم بن سحاب قال: معدن من التقوى لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله.
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقيًا لله كما ينبغي له؟ قال: بيسير من الأمر. تحب الله بقلبك كله، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك. قال: من ابن جنسي يا معلم الخير؟ قال: ولد آدم كلهم، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقًا.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أياس بن معاوية قال: رأس التقوى ومعظمه أن لا تعبد شيئًا دون الله، ثم تتفاضل الناس بالتقى والنهى.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال: فواتح التقوى حسن النية، وخواتمها التوفيق، والعبد فيما بين ذلك، بين هلكات وشبهات، ونفس تحطب على سلوها، وعدو مكيد غير غافل ولا عاجز.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن محرز الطفاري قال: كيف يرجو مفاتيح التقوى من يؤثر على الآخرة الدنيا؟!.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله، ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفريابي قال: قلت لسفيان أرى الناس يقولون سفيان الثوري، وأنت تنام الليل؟ فقل لي: اسكت... ملاك هذا الأمر التقوى.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن شبيب قال: تكلم رجل من الحكماء عند عبد الملك بن مروان، فوصف المتقي فقال: رجل آثر الله على خلقه، وآثر الآخرة على الدنيا، ولم تكربه المطالب، ولم تمنعه المطامع، نظر ببصر قلبه إلى مثالي إرادته، فسما لها ملتمسًا لها، فزهده مخزون، يبيت إذا نام الناس ذا شجون، ويصبح مغمومًا في الدنيا مسجون، قد انقطعت من همته الراحة دون منيته، فشفاؤه القرآن، ودواؤه الكلمة من الحكمة والموعظة الحسنة، لا يرى منها الدنيا عوضًا، ولا يستريح إلى لذة سواها. فقال عبد الملك: أشهد أن هذا أرجى بالًا منا، وأنعم عيشًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران قال: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى تعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أو من حرام؟
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز. أنه لما وُلي حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: يا أيها اتقوا الله، فإنه ليس من هالك إلا له خلف إلا التقوى.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة قال: لما خلق الله الجنة قال لها تكلمي قالت: طوبى للمتقين.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: القيامة عرس المتقين.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يزيد الرحبي قال: قيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعرًا، فما لك لا تقول؟! قال: وأنا قلت فاستمعوه:
يريد المرءُ أن يُعطي مُناهُ ** ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرءُ فائدتي وذخري ** وتقوى الله أفضل ما استفادا

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العفيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال: يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. اهـ.
وقال الثعلبي:
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جماع التقوى في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية».
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى نفسه خيرًا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدِّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟
قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟
قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها ** وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحتقرنّ صغيرة ** إنّ الجبال من الحصا

وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟
فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرًا لما به بأس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟
لتركهم ما لا بأس به حذرًا للوقوع فيما به بأس.
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟
سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشَّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي لا يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضًا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.
أبو القاسم حكيم: هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستح من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:
يريد المرء أنْ يعطى مناه ** ويأبى الله إلاّ ما أرادا

يقول المرء فائدتي وذخري ** وتقوى الله أفضل ما استفادا